فصل: (فرع: الإكراه على التفرق)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: الكتاب لأجل البيع]

وإن كتب رجل إلى رجل ببيع سلعة، فلما قرأ المشتري البيع قال: قبلت.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنه موضع ضرورة.
والثاني: لا يصح؛ لأنه قادر على النطق، فلا ينعقد بغيره، كالإيماء في حق الناطق.
فإن كان أخرس، فأشار إلى البيع بما يفهم منه، أو كتب.. صح بيعه؛ لأن إشارته وكتابته كنطق غيره.

.[مسألة:ثبات الخيار للمتبايعين]

وإذا انعقد البيع.. ثبت لكل واحد من المتبايعين الخيار بين الفسخ والإمضاء، إلى أن يتفرقا أو يتخايرا، وبه قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، وابن عمر، وأبو هريرة، وابن عباس، وأبو برزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ومن التابعين:
الشعبي، وسعيد بن المسيب، والحسن، وطاوس، وعطاء، والزهري، رحمة الله عليهم، ومن الفقهاء: الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال النخعي، ومالك، وأبو حنيفة: (يلزم البيع بنفس العقد، ولا يثبت خيار المجلس، وإنما يثبت الخيار بالشرط فقط).
دليلنا: ما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا عن مكانهما، فإذا تفرقا.. فقد وجب البيع».
وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المتبايعان كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يتفرقا عن مكانهما، أو يقول أحدهما للآخر: اختر».
وروى الشافعي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار».
ومعنى قوله: «إلا بيع الخيار» إلا بيعا قطعا فيه خيار المجلس: إما بالتخاير بعد العقد، أو باعه على أنه لا خيار بينهما إذا قلنا: يصح؛ ولأنه عقد قصد به تمليك المال، فلا يلزم بمجرد العقد، كالهبة، وفيه احتراز من النكاح والخلع.
إذا ثبت هذا: فالتفرق: هو أن يتفرقا بأبدانهما عن مجلسهما الذي تبايعا فيه وكيفية ذلك مأخوذ مما عد في عادة الناس وعرفهم تفرقا.
فإن كانا في دار صغيرة، أو مسجد صغير، أو سفينة صغيرة.. فبأن يخرج أحدهما من الدار، أو المسجد، أو السفينة، أو يصعد السطح.
وإن كانا في دار، أو مسجد كبير، أو سفينة كبيرة.. فبأن يقوم أحدهما من ذلك المجلس، ويمشي إلى مجلس آخر، أو يدخل من صحن الدار إلى الصفة، أو من الصفة إلى البيت.
وإن كانا في صحراء، أو سوق، أو شارع، أو طريق.. فالذي قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن أحدهما إذا قام وولى الآخر ظهره.. فقد وقع التفرق).
قال أصحابنا: أراد: إذا قام، وولى ظهره، ومشى خطوتين أو ثلاثا؛ لما روي: (أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما كان إذا أراد أن يجب البيع.. مشى قليلا).
قال أبو سعيد الإصطخري: إنما يحصل التفرق بأن يتفرقا، بحيث إذا كلم أحدهما صاحبه بغير صياح ولا مناداة، بالخطاب المعتاد.. لا يسمع.
فإن تبايعا، وقاما جميعا من المجلس، وتسايرا يومهما وليلتهما، أو أكثر بحيث لم يتفرقا.. لم ينقطع خيارهما؛ لما روي: «أن رجلين ترافعا إلى أبي برزة الأسلمي، وكان قد أقاما في مجلس البيع يومهما وليلتهما، ثم ذهبا إليه، فقال: لأقضين بينكما بقضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ما أراكما تفرقتما».
قال صاحب "الفروع": وقيل: لو لم يتفرقا، ولكنهما شرعا في أمر آخر، وأعرضا عن أمر العقد، وطال الفصل.. بطل الخيار. وليس بشيء.

.[فرع: ما لا يضر في الخيار]

فإن جعل بينهما ستر من بناء حائط، أو ستارة.. لم ينقطع خيارهما بذلك؛ لأن ذلك لا يحصل به التفرق.
وأما التخاير: فإن قال أحدهما: اخترت إمضاء العقد.. انقطع خياره، فإن قال الآخر: اخترت فسخ العقد.. انفسخ العقد.
وهكذا: لو اختار أحدهما فسخ العقد.. انفسخ العقد. ولو اختار الآخر إمضاءه بعد ذلك.. لم يؤثر ذلك؛ لأن الخيار لكل واحد منهما، فإذا اختار أحدهما الفسخ.. انفسخ من الجانبين.
وإن قال أحدهما للآخر: اختر، فسكت المسئول.. لم ينقطع خياره، وهل ينقطع خيار السائل؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا ينقطع، كما لو قال لزوجته: اختاري، فسكتت.. فإن خيار الزوج لا ينقطع في طلاقها.
والثاني: ينقطع خياره، وهو المذهب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أو يقول أحدهما للآخر: اختر».
ولأنه لم يقل هذا إلا بعد الرضا منه بالبيع. ويخالف الزوجة، فإنها لم تكن مالكة للخيار، فإذا خيرها، فلم تختر.. بقي الزوج على خياره.

.[فرع: الإكراه على التفرق]

قال الشيخ أبو حامد: إذا أكرها على التفرق، ومنعا من التخاير.. لم يبطل خيارهما، وجها واحدا؛ لأنهما قد أكرها عليه، فلم ينقطع خيارهما إلا بالتراضي. وإن أكرها على التفرق، ولم يمنعا من التخاير.. فهل ينقطع خيارهما؟ فيه وجهان:
أحدهما: وهو قول أبي إسحاق -: أنه ينقطع خيارهما؛ لأنهما قد قدرا على الفسخ بالقول، فكان سكوتهما رضا منهما بالإمضاء.
والثاني - وهو قول عامة أصحابنا، وهو الصحيح -: أنه لا ينقطع خيارهما؛ لأن وجود التفرق مع الإكراه كعدمه، وسكوتهما عن الفسخ لا يسقط الخيار الثابت.
وقال القفال: إذا أكرها على التفرق، ولم يمنعا من التخاير.. سقط خيارهما، وجها واحدا. وإن أكرها على التفرق، ومنعا من التخاير.. فهل ينقطع خيارهما؟ فيه وجهان.
فإن هرب أحدهما من الآخر.. لزم العقد، وجها واحدا؛ لأنه فارقه باختياره، وليس يقف افتراقهما على تراضيهما جميعا؛ لأنه لما سكت عن الفسخ، وفارق صاحبه.. لزم البيع.

.[فرع: غياب العقل]

وإن جن أحدهما، أو أغمي عليه قبل التفرق.. لم يبطل خياره.
قال ابن الصباغ: فإن كان له ولي.. قام مقامه في اختيار ما هو أحظ له، وإن لم يكن له ولي.. قام الحاكم مقامه.
وإن خرس، فإن كانت له إشارة مفهومة أو خط.. قام ذلك مقام لفظه، وإن لم تكن له إشارة مفهومة ولا خط.. كان كالمغمى عليه، ينوب عنه وليه أو الحاكم.

.[فرع: تقدير خيار الموكل والوكيل]

إذا اشترى الوكيل شيئا لموكله.. فهل يتقدر الاختيار بمجلس الوكيل، أو الموكل؟ فيه وجهان، المذهب: أنه يتقدر بمجلس الوكيل.
فإن مات الوكيل قبل التفرق والتخاير.. فهل ينتقل إلى الموكل؟ فيه وجهان:
أحدهما: وهو المذهب -: أنه ينتقل إليه؛ لأن العقد له.
والثاني: لا ينتقل إليه؛ لأن الخيار تعلق بمجلس الوكيل، وليس الموكل وارثا له.

.[فرع: بيعان في مجلس]

إذا تبايعا وتقابضا، وتبايعا بالعوض المقبوض بيعا ثانيا قبل التفرق، أو التخاير.. ففيه وجهان:
أحدهما: وهو قول أبي العباس، وهو المشهور -: أن البيع الثاني صحيح، وينقطع الخيار للأول؛ لأن دخولهما في الثاني رضا منهما بلزوم العقد الأول.
والثاني - حكاه ابن الصباغ عن القفال -: أن الثاني لا ينعقد إلا على القول الذي يقول: إن الخيار لا يمنع انتقال الملك.
فإذا قلنا: يمنع.. فلا يصح.

.[فرع: تولي الولي طرفي العقد]

إذا اشترى الأب أو الجد شيئا من مال ابنه الصغير، أو باعه وتولى طرفي العقد.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدهما: وهو المشهور -: أن خيار المجلس يثبت، ولا يلزم العقد إلا بمفارقة الأب مجلس العقد، أو باختياره للإمضاء؛ لأنه لما قام مقام الابن في العقد.. قام مقامه في خيار المجلس.
والثاني - حكاه الطبري في "العدة" -: أنه لا يثبت خيار المجلس؛ لأنه ليس هاهنا أحد يفارقه.
والثالث - حكاه أبو علي السنجي في " شرح التلخيص " -: أنه يثبت، ولكن لا يلزم إلا بالاختيار بالقول، ولا يلزم بمفارقته مجلس العقد؛ لأنه لما كان هو العاقد لا غير.. كان كالمتبايعين إذا قاما من مجلسهما إلى مجلس آخر، واصطحبا إلى مكان بعيد.. فلا يبطل خيارهما ما لم يتفرقا، إلا بالتخاير.

.[مسألة:شرط عدم الخيار]

إذا شرطا قطع خيار المجلس في حال العقد، مثل أن يقول: بعتك على أن لا يكون بيننا خيار المجلس، فقال المشتري: قبلت.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ – في القديم، و" البويطي ": (إن الخيار لا ينقطع)؛ لأنه قال: وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار» يحتمل تأويلين:
أحدهما: وهو أظهرهما عند أهل اللغة واللسان، وأقواهما بالسنة والقياس -: أن يتخايرا بعد التبايع.
والثاني: أن يتخايرا في عقد البيع، ولا أقول هذا، وقولي الأول.
وقال في (الأيمان والنذور): (إذا قال الرجل لعبده: إذا بعتك.. فأنت حر، فباعه بيعا ليس ببيع خيار.. عتق).
واختلف أصحابنا في ذلك:
فقال أبو إسحاق: المسألة على قول واحد، وإن قطع الخيار في حال العقد لا يجوز، والذي قاله في (الأيمان والنذور): إنما قصد به الرد على مالك وأبى حنيفة؛ لأنهما يقولان: (ليس بين المتبايعين خيار المجلس).
وإذا تم العقد.. لزم البيع، ولم يعتق العبد، إلا إن كان بينهما خيار الشرط، فأراد الشافعي بقوله: (ليس ببيع خيار) أي: خيار الشرط.
ومنهم من جعل ذلك قولا آخر للشافعي، فجعل المسألة على قولين، وهو اختيار الشيخ أبي حامد:
أحدهما: يصح الشرط؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار». وهذا استثناء من إثبات، فوجب أن يكون نفيا، ولأن خيار المجلس غرر، فإذا صح البيع معه.. فلأن يصح مع عدمه أولى.
والثاني: لا يصح الشرط، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يتخايرا». والتخاير لا يكون إلا بعد البيع؛ لأنهما قبل تمام العقد لا يقال لهما متبايعان، بدليل: أن من حلف لا يبيع.. لا يحنث إلا بعد الإيجاب والقبول، ولأن هذا خيار يثبت بعد تمام البيع، فلم يجز إسقاطه قبل ذلك، كخيار الشفعة، وفيه احتراز من خيار القبول.
فإذا قلنا: إن الشرط جائز.. وقع البيع لازما، ولا خيار.
وإذا قلنا: إن الشرط باطل.. فهل يبطل البيع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يبطل البيع؛ لأنه شرط ينافي مقتضى العقد، فأبطله، كما لو قال: بعتك على أن لا أسلم المبيع.
والثاني: لا يبطل البيع؛ لأنه لا يؤدي إلى جهالة العوض والمعوض، فلم يبطل العقد لأجله.
وأما الشيخ أبو إسحاق: فقال: إذا باعه على أن لا خيار بينهما.. ففيه وجهان، وإن شئت قلت: في المسألة ثلاثة أوجه:
أحدها: يبطل البيع والشرط.
والثاني: يصح البيع والشرط.
والثالث: يصح البيع، ويبطل الشرط.
إذا ثبت هذا: فقال الرجل لعبده: إن بعتك.. فأنت حر، فباعه بيعا مطلقا.. فإنه يعتق إذا تم الإيجاب والقبول؛ لأنه يثبت له خيار المجلس، وهو يملك إعتاقه، فكذلك إذا وجدت صفة العتق فيه.
وإن باعه بيعا شرط فيه قطع خيار المجلس، فإن قلنا: لا يصح البيع.. لم يعتق العبد؛ لأن الصفة لم توجد. وإن قلنا: إن الشرط صحيح، والبيع صحيح.. لم يعتق العبد أيضا؛ لأن البيع يقع من غير خيار. وإن قلنا: الشرط باطل، والبيع صحيح.. عتق العبد، كما لو باعه مطلقا.

.[مسألة:العقود التي يثبت بها الخيار]

ويجوز شرط خيار الثلاث في البيوع التي لا ربا فيها؛ لما روي: «أن حبان بن منقذ أصاب رأسه آمة، فثقل لسانه، فكان يغبن في بياعاته، فجاء أهله إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسألوه أن يحجر عليه، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا بايعت.. فقل: لا خلابة، ولك الخيار ثلاثة أيام».
إذا ثبت هذا: فذكر أصحابنا العقود التي يثبت فيها الخيار والتي لا يثبت فيها، على ترتيب المزني؛ ليسهل حفظه، فمنها: الصرف والسلم، يثبت فيهما خيار المجلس؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا». وهذان متبايعان، ولا يثبت فيهما خيار الشرط؛ لأنهما يفتقران إلى القبض في المجلس، فلو أثبتنا فيهما خيار الشرط.. أدى إلى أن يفترقا قبل تمامهما، فلم يصح.
وأما الرهن: فلا يثبت فيه خيار المجلس ولا خيار الشرط؛ لأن الراهن بالخيار ما لم يقبض الرهن، والمرتهن له فسخ الرهن متى شاء، فلا معنى لإثبات الخيارين.
وكذلك القرض لا يثبت فيه الخياران؛ لأن للمقرض أن يطالب بالقضاء متى شاء، وللمقترض أن يقضي متى شاء، فلا معنى لإثبات الخيارين.
وأما الصلح: فعلى ثلاثة أضرب: صلح هو حطيطة، وصلح بمعنى البيع، وصلح بمعنى الإجارة.
فأما صلح الحطيطة: فبأن يدعي عليه ألفا، فيقر له بها، ثم يبرئه من بعضها، ويأخذ منه الباقي، فلا خيار فيه، كالإبراء.
وأما صلح البيع: فبأن يعطيه بالألف عينا، فهذا بيع يثبت فيه الخياران، كالبيع.
وأما صلح الإجارة: فبأن يملكه منفعة عين من أعيان أمواله بالألف، فهذا كالإجارة على ما يأتي.
وأما الحوالة: فلا يثبت فيها خيار الشرط. وفي خيار المجلس وجهان:
أحدهما: يثبت؛ لأنها معاوضة في الحقيقة.
والثاني: لا يثبت؛ لأنها تجري مجرى الإبراء، بدليل: أنها لا تصح بلفظ البيع، فلم يثبت.
وأما الضمان والكفالة بالأبدان: فلا يثبت فيهما الخياران؛ لأن الضامن يدخل فيهما متطوعا مع الرضا بالعين، ولهذا يقال: الكفالة: أولها ندامة، وأوسطها ملامة، وآخرها غرامة.
وأما الوكالة والشركة والعارية والوديعة والقراض والجعالة: فلا يثبت فيها الخياران؛ لأنها عقود جائزة، لكل واحد منهما فسخها متى شاء، فلا معنى لإثبات خيار المجلس فيها وخيار الشرط.
وأما الشفعة: فلا يثبت فيها خيار الشرط؛ لأنها لا تقف على التراضي. وأما خيار المجلس: فلا يثبت للمشتري؛ لأنه يؤخذ منه الشقص بغير اختياره، وهل يثبت للشفيع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يثبت له؛ لأن ذلك معاوضة.
والثاني: لا يثبت له، كما لا يثبت له خيار الشرط.
وأما المساقاة والإجارة المعقودة على زمان: فلا يثبت فيهما خيار الشرط، وهل يثبت فيهما خيار المجلس؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يثبت فيهما، كما لا يثبت فيهما خيار الشرط.
والثاني: يثبت فيهما؛ لأن قدره يسير.
وأما الإجارة في الذمة: فمثل: أن يستأجره ليحصل له بناء حائط، أو ليحصل له خياطة ثوب: ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يثبت فيها الخياران؛ لأن الإجارة عقد على ما لم يخلق، وذلك غرر؛ فلا يجوز أن يضاف إليه غرر الخيار.
والثاني: يثبتان؛ لأن بمضي المدة لا ينفصل من المعقود عليه شيء.
والثالث: يثبت فيها خيار المجلس، ولا يثبت فيها خيار الشرط، كالسلم.
وأما الوقف: فلا يثبت فيه الخيار؛ لأنه إزالة ملك على وجه القربة، فلا يثبت فيه الخيار، كالعتق.
وأما الهبة: فإنها قبل القبض لا تلزم، وأما بعد القبض: فإن قلنا: لا تقتضي الثواب.. لم يثبت فيها خيار. وإن قلنا: تقتضي الثواب.. فحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: هل يثبت فيها الخياران؟ فيه وجهان:
أحدهما: يثبتان؛ لأنها معاوضة، فأشبهت البيع.
والثاني: لا يثبتان؛ لأنها وإن كانت معاوضة، فليس القصد منها العوض، فلم يثبت فيها الخيار، كالنكاح.
وقال القاضي أبو الطيب: لا يثبت فيها خيار الشرط، وجها واحدا، وفي خيار المجلس وجهان.
وأما الوصية: فلا يثبت فيها الخياران؛ لأن الموصي بالخيار إلى أن يموت، فإذا مات.. سقط خياره، وكان الموصى له بالخيار إن كان معينا إلى أن يقبل، وهل يثبت له الخيار بعد القبول وقبل القبض؟ فيه وجهان.
وأما النكاح: فلا خيار فيه؛ لأنه لا يقصد منه العوض.
وأما الصداق: فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: لا يثبت فيه الخيار، ومنهم من قال: يثبت إذا شرط، ونذكر ذلك في النكاح إن شاء الله تعالى.
وأما الخلع: فلا يثبت فيه خيار الشرط، وفي خيار المجلس وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يثبت؛ لأنه معاوضة، فإذا فسخ.. بقي الطلاق رجعيا.
والثاني: لا يثبت؛ لأن القصد منه الفرقة، دون المال، فأشبه النكاح.
وأما الطلاق: فلا يثبت فيه الخيار؛ لأنه إذا وقع لم يرتفع.
وأما السبق والرمي: فإن قلنا: إنهما كالجعالة، فهما عقدان جائزان.. فلا يثبت فيهما الخيار. وإن قلنا: إنهما كالإجارة.. فقد مضى حكمها.
وأما القسمة: فإن كان فيها رد.. ثبت فيها الخياران؛ لأنها بيع. وإن لم يكن فيها رد، فإن كان الحاكم يقسمها.. فهي قسمة إجبار، فلا خيار فيها وإن اقتسم الشريكان بأنفسهما، فإن قلنا: إنها إقرار الحقين.. فلا خيار فيها، وإن قلنا: إنها بيع.. ثبت فيها الخياران.
وأما العتق: فلا خيار فيه؛ لأنه إسقاط حق. وكذلك التدبير لا يثبت فيه الخيار؛ لأنه عتق بشرط.
وأما الكتابة: فلا خيار للسيد فيها؛ لأنه يدخل على وجه القربة، ويعلم أنه مغبون من جهة المال، وأما العبد: فله الخيار إلى أن يؤدي المال.

.[فرع: جواز خيار الشرط]

وكل عقد صح فيه خيار الشرط.. صح أن يشترطا خيار يوم أو يومين؛ لأنه إذا جاز شرط الخيار في الثلاث.. فلأن يجوز فيما دونها أولى.
قال الزبيري: إذا قال: بعتك على أن لي الخيار إلى طلوع الشمس من الغد.. لم يجز، وإن قال: إلى وقت طلوعها.. جاز؛ لأن طلوع الشمس مجهول؛ لأنها قد تتغيم، فلا تطلع وقت طلوعها، ووقت طلوعها لا يتغير، ولو قال إلى غروب الشمس.. جاز؛ لأن الغروب سقوط القرص، ولا مانع من ذلك كما يمنع الغيم من طلوعها.
وإن تبايعا بالنهار، وشرطا الخيار إلى الليل، أو تبايعا بالليل، وشرطا الخيار إلى النهار.. لم يدخل الليل والنهار في الخيار.
وقال أبو حنيفة: (يدخلان).
دليلنا: أنها مدة ملحقة بالعقد، فلا يدخل حدها في محدودها، كالأجل.

.[فرع: معرفة معنى لا خلابة]

إذا قال في بيعه: «لا خلابة "، قال ابن القطان: فإن كانا عالمين بأن ذلك عبارة عن خيار الثلاث.. ثبت، وإن كان البائع عالما بذلك، والمشتري جاهلا به.. فيتحمل وجهين:
أحدهما: لا يثبت؛ لأنه ليس في ذلك ذكر الشرط.
والثاني: يلزمه، ولا يعذر في جهله، كما إذا بايع محجورا عليه.. لزمه حكم حجره وإن كان جاهلا به.

.[فرع: لا خيار فوق ثلاث]

ولا يجوز أن يشترط الخيار أكثر من ثلاثة أيام، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (يجوز أن يشترط من الخيار ما تدعو الحاجة إليه. فإن كان المبيع ثوبا.. جاز أن يشترطا ساعة، ولا يجوز أكثر، وإن كان المبيع قرية أو ضيعة.. جاز أن يشترطا ما تدعو الحاجة إليه من شهر أو أكثر).
وقال ابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد: (يجوز شرط الخيار ما شاءا، كالأجل).
دليلنا: ما روي «عن أمير المؤمنين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أنه قال: ما أجد لكم أوسع مما جعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحبان بن منقذ - إنه كان ضرير البصر - جعل له عهدة ثلاثة أيام، إن رضي.. أخذ، وإن سخط.. ترك».
ولأن الخيار غرر في العقد، وإنما جوز رخصة ولأجل الحاجة، فيجب أن يتقدر بما تدعو الحاجة إليه غالبا، والحاجة لا تدعو إلى أكثر من الثلاث في الغالب؛ لأنه أول حد الكثرة، وآخر حد القلة، ولهذا: «جوز النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمهاجر أن يقيم بمكة ثلاثا».
وأما الدليل على أن الثلاث يجوز شرطها في البيان، وما يتوصل إلى معرفته في أقل من الثلاث: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لحبان بن منقذ: ولك الخيار ثلاثا» ولم يفرق.
وإن اشترى شيئا يسرع إليه الفساد قبل انقضاء الثلاث، كالهريسة وما أشبهها، وشرط فيه خيار ثلاثة أيام.. فسمعت الفقيه زيد بن عبد الله اليفاعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: يحتمل وجهين:
أحدهما: يبطل البيع.
والثاني: يصح البيع.
وإذا خيف عليها الفساد قبل انقضاء الخيار.. بيعت، وجعل ثمنها قائما مقامها.

.[فرع: إسقاط الزائد من الخيار]

إذا شرط الخيار أكثر من ثلاثة أيام.. فسد البيع، وإن أسقط ما زاد على الثلاث.. لم يحكم بصحة العقد، وبه قال زفر.
وقال أبو حنيفة: (إذا أسقط ما زاد على الثلاث بعد العقد.. صح البيع).
دليلنا: أن العقد وقع فاسدا، فلم يصح حتى يستأنف العقد، كما لو باع درهما بدرهمين، ثم أسقطا الدرهم الزائد بعد العقد.